تفاصيل وأسرارعن حجرة الرسول الكريم
[ تفاصيل وأسرار "يرويها" قليلون دخلوا الحجرة النبوية الشريفة
رغم الكثير من الوصف الذي ورد عنها في كتب المؤرخين القدماء فقد ظلت في نظر الكثير من الناس سرا من الأسرار التي يستحيل معرفتها، ما أن تسمع رواية أو وصفا حتى تكتشف أن هناك المزيد والمزيد وأنك مهما حاولت واجتهدت فلن تنال من المعرفة عنها سوى أقل القليل.
في هذا المقال نلامس مشاعر فياضة لأناس سمح لهم بدخول الحجرة النبوية.. المكان الذي عاش فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحجرة السيدة عائشة التي أسلم فيها الروح.
يقول الكاتب الصحفي عمر المضواحي المهتم بالكتابة عن الحرمين الشريفين والأماكن المغروسة في وجدان المسلمين: غمست وجهي محدقا من بين فتحات الحجرة.. كنت خائفاًً حتى الموت، لكن شيئا ما دفعني للنظر، علني أرى ما نبأني عنه شيوخ التقيت بهم في مكة المكرمة.
شاهدت قناديل معلقة بسقف الحجرة النبوية، رأيت مثلها في جوف الكعبة المشرفة، هدايا قديمة مصاغة من الذهب والفضة، تعكس مراحل ضاربة في عمق التاريخ الإسلامي، واختلست نظرات لحجرة السيدة فاطمة الزهراء، ومتعت عيني في بقعة ضمت الشطر الأكبر من حياة الرسول الكريم• أنوار تتجلى في ذات المكان، وهديل حمائم جاورت، كما جاورت غار ثور يوم هجرة الرسول وصاحبه أبي بكر الصديق.
صناع كسوة الحجرة النبوية
يضيف: كنت أقوم بعمل تحقيق صحفي منذ عدة سنوات عن الكسوة الخضراء وهي كسوة الحجرة النبوية، فأتيح لي أن التقي من نالوا شرف المشاركة في نسج هذه الكسوة التي يعود تاريخها إلى قرون مضت، حيث أورد المؤرخ السعودي حسين سلامة في كتابه (تاريخ الكعبة المعظمة) أنه جاء في كتاب الرحلة الحجازية للبتنوني نقلا عن كتاب الخطط للمقريزي، أن العباسيين كانوا يعملون كسوة الكعبة المشرفة بمدينة (تنيس) المصرية، وكانت لها شهرة عظيمة في المنسوجات الثمينة.
ويذكر البتنوني أنه لما استولت الدولة العلية على مصر اختصت بكسوة الحجرة الشريفة، وكسوة البيت الداخلية، واختصت مصر بكسوة الكعبة الخارجية.
واستمرت الكسوة تصنع في عدد من الدول الإسلامية كمصر وتركيا والهند حتى صدر أمر مؤسس الدولة السعودية الثالثة عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود بإنشاء مصنع كسوة الكعبة بمكة المكرمة، وبات المصنع يقوم بعمل الكسوتين لأول مرة في التاريخ في أرض الحرمين الشريفين.
وتوجد الحجرة النبوية في الجزء الجنوبي الشرقي من مسجد الرسول، وهي محاطة بمقصورة، عبارة عن حجرة خاصة مفصولة عن الغرف المجاورة فوق الطبقة الأرضية، من النحاس الأصفر، ويبلغ طول المقصورة 16 مترا وعرضها 15 مترا، ويوجد بداخلها بناء ذو خمسة أضلاع يبلغ ارتفاعه نحو 6 أمتار بناه نور الدين زنكي ونزل بأساسه إلى منابع المياه، ثم سكب عليه الرصاص حتى لا يستطيع أحد حفره أو خرقه، وداخل البناء قبر الرسول، وقبرا أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب.
وفي شمال المقصورة النبوية وجدت مقصورة أخرى نحاسية ويصل بين المقصورتين بابان، ويحيط بالحجرة النبوية أربعة أعمدة أقيمت عليها القبة الخضراء التي تميز المسجد، أما الروضة الشريفة فهي بين المنبر وقبر الرسول ويبلغ طولها 22 مترا، وعرضها 15 مترا.
في المسجد النبوي تشتم طيب روائح الصحابة، تكاد تسمع أحاديثهم ومسامراتهم، ترى حركاتهم وأثر خطواتهم العارية على صفحات هذه الأرض المباركة، لكن ما يحزنك حتى البكاء، أن يترك هذا التراث بدون تدوين وأن تموت أنفس قليلة بقيت تعرف وحدها كل هذه التفاصيل.
أحاديث الدموع والخشوع
ويؤكد أن هذه التفاصيل والأسرار ما هو مدون منها قليل، ومهمل، وضائع في الكتب القديمة ويفتقر إلى التوثيق بالصور بجانب المعلومات، ولا أليق ولا أكمل من أن نوثق هذه المواقع ونعرفها، بطريقة أو بأخرى لنحافظ على روح المكان في جسده الجديد العملاق.
لماذا ظل مكتوما خبر هذه الكسوة قبل الآن، ولماذا نمر عليها لماما في حين، وبتجاهل في أحايين أخرى؟.. يقول المضواحي: لا زلت أذكر حديث الشيخين في مكة، وأنا أرى نسج عملهم. كنت في مكة، فذهبت صوب مصنع كسوة الكعبة، وهناك عرفت أن للمصنع شرفا آخر، فهو ينتج أيضا كسوة أخرى للحجرة النبوية.
التقيت في ذلك الوقت قبل عدة سنوات برجال شاركوا في الصنع والتركيب، لم أشأ حينها أن أفوت الفرصة حيث إن أصغرهم كان في الستينات من عمره، وخفت أن يودعوا الدنيا دون أن أتمكن من توثيق هذا العمل.
سجلت معهم أحاديث اختلطت بالدموع والخشوع، خانهم التعبير مرات وخنقتهم العبرات في أخرى، وهم يتحدثون عن تجربتهم الفريدة، كانت أطرافهم ترتعش من مجرد الذكرى كأنها حدثت بالأمس، وليس قبل ربع قرن من الزمان.
كان الشيخ محمد على مدني، رئيس قسم النسيج الآلي بالمصنع في ذلك الوقت، كريما معي، وعرفت منه أنه كان أحد الذين شاركوا في نسج كسوة الحجرة النبوية وتركيبها. قلت له حدثني عن كسوة الحجرة النبوية، صفهما لي: جال ببصره بعيدا، كأنه يستحضر تلك الذكريات الغالية، ثم أجابني: شعرت يومها بحالة ذهول كامل تملكتني. إنها بقعة عظيمة، غاية في العظمة، لا أعرف محيطها بالتحديد لكن بدا لي أن محيط الحجرة النبوية 48 مترا.
هيبة المكان غلبت على أن ألحظ فيها شيئا ملفتا للنظر أو للانتباه، كنت مبهورا ولم أر سوى قناديل معلقة بسقف الحجرة، وهي هدايا قديمة كانت تهدى للمسجد النبوي من قديم الزمان، وقيل لي إنه كانت هناك آثار نبوية وضعت في مكان آخر لا أعرف أين، وما أعرفه أن هناك بعض الأشياء التاريخية محفوظة في حجرة السيدة فاطمة الزهراء، وهو ذات المكان الذي كانت تسكن فيه.
أضاف: كسوة الحجرة نسيج من حرير خالص، أخضر اللون، مبطن بقماش قطني متين، ومتوجة بحزام مشابه لحزام كسوة الكعبة المشرفة، غير أن لونه أحمر قان، خط عليه بتطريز ظاهر آيات قرآنية كريمة من سورة الفتح تشغل ربع مساحته، بخيوط من القطن وأسلاك من الذهب والفضة وهو بارتفاع 95سم2.
وهناك قطع أخرى من ذات اللون الأحمر وبنفس النسج لكنها أصغر قليلا مكتوب عليها إشارات تدل على مواقع القبور الثلاثة، وهي من ذات العينة والطراز للكسوة الداخلية لجوف الكعبة، وباختلاف بسيط يتمثل في اختلاف الآيات القرآنية المنسوجة يدويا بطريقة "الجاكار" المعمول مثلها آليا على ظاهر كسوة الكعبة.
كسوة الحجرة النبوية لا تتبدل كل عام مثل كسوة الكعبة المشرفة، فهي محفوظة في بناء الحجرة وبعيدة عن الأيادي وعوامل المناخ• ويتم تغييرها كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
مفاتيح الحجرة عند كبير الأغوات
ترتفع السترة بمقدار ستة أمتار، ويتم تركيبها عادة في السادس من شهر ذي الحجة، كلما صدر الأمر الملكي بذلك، وعند كبير الأغوات مفاتيح الحجرة، وهم من يقوم بخدمتها وتنظيفها والعناية بها كل ليلة اثنين وجمعة حتى الآن.
ويضيف عمر المضواحي متحدثا لـ"العربية.نت": كنت أرغب في المزيد، ووجدته عند الشيخ محمد جميل خياط مدير الإنتاج بالمصنع، وهو رجل بدا لي حينها في الستينات من عمره. قال له الشيخ جميل: تم الإبقاء على الصنع اليدوي في المصنع لعمل الكسوتين، الداخلية لجوف الكعبة المشرفة، والأخرى للحجرة النبوية، للحفاظ على هذا التراث الفني الراقي.
يستطرد المضواحي: ثم التقيت بالشيخ أحمد ساحرتي رئيس قسم التطريز بالمصنع، بدا لي في ذلك الوقت البعيد أيضا كبر سنه، وضعف نظره، بادرني: كيف أستطيع أن أحدثك عن مشاعري لحظة دخولي الى الحجرة النبوية.. لا يمكنني ذلك، اعذرني.. هذا حديث فوق قدرتي على الكلام، ولم أظن في يوم من الأيام أن أسئل عن هذه التجربة.. وأؤكد لك أنني لن أستطيع خوضها ثانية.
اقترب مني أكثر وأضاف: أنظر إلى عدسات نظارتي ــ وأشار إلى غلظتها ــ ودقق النظر في شيبتي وثقل السنين التي أحملها، عمري لا أحصيه، لكنني سمعتهم يقولون إنني من مواليد 1333هـ، ومع كل هذه السنين لم أعرف لي هواية غير حب العطور والروائح الجميلة، وصرفت ردحا من أيامي التي عشتها طولا وعرضا لأشبع هذا النهم الذي لايزال يرافقني للآن، سافرت كثيرا وتعرفت على الكثير لكنني أستطيع أن أقول بثقة أن لي تركيبات عطرية خاصة، لا تكون عند غيري ولا يقدر عليها أحد سواي.
عندما فتحت الأبواب ودخلوا الحجرة
يواصل الساحرتي متحدثا للمضواحي: أقول ذلك لأنني عرفت عجزي وقلة معرفتي في تلك الليلة المباركة، عندما فتحت لنا الأبواب، ودخلنا الحجرة النبوية، لقد أستنشقت عطرا وروائح ما عرفتها من قبل، ولم أعرفها من بعد. لم أعرف سر تركيبتها أبدا، كان عطرا فوق العطر، وشذا فوق الشذا، وشيئا آخر لا قبل لنا به نحن أهل الصنعة والمعرفة.
يحكي عمر المضواحي قائلا: عندما سألته أن يصف لي الحجرة النبوية، سرت في جسده رعدة خفيفة أصابته، وقال بصوت خافت: أعتقد أن ارتفاع الحجرة أحد عشر مترا، وأسفل القبة الخضراء، قبة أخرى مكتوب عليها: قبر النبي وقبر أبو بكر الصديق وقبر عمر بن الخطاب، ورأيت أيضا أن هناك قبرا آخر لكنه خاو، وبجانب القبور الأربعة، حجرة السيدة فاطمة الزهراء، وهو البيت الذي كانت تسكنه.
من رهبتنا لم نكن نعرف كيف نرفع المقاسات الخاصة بالقبة، كانت أصابعنا ترتجف، وأنفاسنا تتسارع. وبقينا 14 ليلة كاملة نعمل فيها من بعد صلاة العشاء إلى وقت أذان الفجر الأول، لننجز مهمتنا.
ظللنا نرفع المقاسات، ونحل أربطة السترة القديمة، نكنس وننظف ما علق بالمكان الطاهر من غبار وريش حمام، هذا الموقف يعود إلى عام 1971 ميلادية، وكانت الكسوة التي قمنا بتغييرها قديمة، كان عمرها 75عاما حسب التاريخ المنسوج عليها، ولم تستبدل طوال هذا الوقت.
ويمضي الشيخ الساحرتي في تفاصيل تلك الزيارة: كنت أول من دخل مع السيد حبيب من أعيان المدينة المنورة، وأسعد شيرة مدير الأوقاف في المدينة وقتها وحبيب مغربي من إدارة المصنع، وعبد الكريم فلمبان وناصر قاري، وعبد الرحيم بخاري وآخرين، كنا 13رجلا، لا أذكر معظمهم، فقد ذهبوا إلى رحمة الله.
كان يرافقنا كبير الأغوات وعدد من خدام الحجرة النبوية.. الهمس حديثنا، هذا إذا لم تكن الإشارة تغني عن الكلام. كنت ومازلت أعاني من ضعف شديد في الإبصار، وهذه النظارة لم تفارق عيني منذ تلك الأيام، لكنني كنت في الحجرة شخصا آخر.. كنت أشعر بذلك، وألمس الفرق.
أشياء غريبة حدثت لي
ويقسم الشيخ الساحرتي قائلا: "كنت أدخل الخيط في ثقب الإبرة من غير نظارة، رغم الضوء الخافت الذي كنا نعمل فيه. كيف تفسر ذلك، وكيف تفسر أنني لم أشعر بحساسية في صدري كنت أعاني منها ومازلت، فأنا أسعل بشدة مع أدنى غبار، لكنني يومها لم أتأثر بغبار الحجرة، ولا بالأتربة المتطايرة، كأن التراب لم يعد ترابا، وكأن الغبار أصبح دواءً لعلتي، كنت أشعر طوال تلك الليالي أنني شاب، وأن فتوة الصبا قد ردت اليّ .
لقد حدث معي شيء غريب آخر لم أفهم سره حتى اليوم، فبعد تجديد كسوة الحجرة يومها، كان علينا أن نخرج الستارة القديمة، حمل من حمل الستارة، وبقي حزامها المطرز بطول 36مترا، قلت لهم لفوه ثم أتركوه، تقدمت إليه، وحملته على ضعفي فوق كتفي هذا، خرجت به من الحجرة النبوية، لم أشعر بثقله أبدا، لكنهم بعد ذلك جاءوا برجال خمسة ليحملوه فلم يستطيعوا، وانخرط الشيخ في بكاء صامت، وأكمل بتأوه: سأل بعضهم عن الذي حمله وجاء به إلى هنا، قلت مجيبا: أنا، لم يصدقوا.. قلت لهم اسألوا عبد الرحيم بخاري خطاط الكسوة الشهير.
منقول